بالعربى
مذكرات في مستشفى العزل
السبت 7 مارس 2020 عصراً اتلقى اتصالاً هاتفياً:
اسراء، جهزي شنطتك حتيجي مستشفى العجمي للعزل لمدة أسبوعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت هذه هي الكلمات البسيطة التي تلقيت بها تكليف رئاستي لفريق مكافحة العدوى لمدة اسبوعين بمستشفى العجمي للعزل بالإسكندرية. المستشفى التي تقرر تجهيزها لاستقبال الحالات الإيجابية الإصابة بفيروس الكورونا المستجد(COVID-19) …. لحظات من الصمت لاستيعاب التكليف بدون تردد والتفكير في كيفية تبليغ الأهل وما ستحتويه حقيبتي.
في تمام السابعة تحركت من المنزل حتى وصلت إلى المستشفى في تمام الساعة العاشرة إلا ربع مساء لأجد المكان غريباً عني استقبلتني مس/ جيهان يحيى و مس/ أسماء طه أعضاء فريق مكافحة العدوى الرئيسين بالمستشفى. وضعت حقيبتي بغرفة السكن وارتديت ردائي الأبيض (البالطو) الذي دوماً ما أشعر بالفخر والمسؤولية حين ارتديه. توجهت على الفور إلى داخل المستشفى لأجد مبنى مجهز على أحدث طراز ومجموعة من العاملين كخلايا نحل. الجميع في حالة استنفار لتجهيز المستشفى. فرق عمل مختلفة من عمال يقومون بتنظيف الأرضيات والأسطح وحمل ونقل الأدوات والأجهزة والأسرة وفريق التمريض الذي يقوم بتجهيز احتياجات الأدوار والمستلزمات وفنيين صيانة يقومون بالتجهيزات اللوجيستية، كل هؤلاء كانوا يعملون معاً لوضع أساسات التجهيزات الطبية للمستشفى. ملحمة إنسانية من العمل الجماعي لتجهيز المستشفى ب 250 سرير لاستقبال الحالات المصابة بالفيروس التي ستأتي إلى المستشفى. انقسمت الأيام بين أسبوع من التجهيزات والتدريبات والأسبوع الآخر من بداية استقبال الحالات والتعامل معها. تعلمت كثيراً ونضجت كثيراً …
لقد تم تحويل المستشفى لاستقبال حالات العزل فجأة في ساعات قليلة لم يكن منا أحد جاهزاً لهذه المفاجأة … ممنوع الدخول أو الخروج … تتفاوت أعمار العاملين … الجميع لديه احتياجات وأسر قلقين علينا. حالة خوف من المجهول القادم مع الحرص على تحمل مسؤولية الموقف وأهمية الاستعداد الكامل للمواجهة.
قابلت فرق العاملين المختلفة الذين كان لديهم التصميم لتعلم كيفية التعامل مع الحالات وكيفية وقاية أنفسهم وتملأهم الحماسة لمواجهة الفيروس وعدم الهروب منه. كنت أتعلم منهم جميعاً حبهم لمهنتهم على الرغم من خطورتها في هذا الموقف على حياتهم.
أتذكر قهوتي المفضلة التي كانت تعدها لي سمر، ممرضة رقيقة حنونة القلب ولكنها أيضاً شجاعة كانت دائماً مستعدة لمواجهة الفيروس ومساعدة المرضى، تلك القهوة التي كانت تساعدني على الاستمرار لساعات طويلة من العمل كانت تصل إلى أكثر من 21 ساعة من العمل المتواصل.
مر الأسبوع الأول بدون راحة ولا نوم. العمال والفنيين وأعضاء هيئة التمريض يعملون بكد كفريق واحد لإنجاز التجهيزات. كنت اجتمع بهم يومياً لتدريبهم على إجراءات التعامل مع المرضى وسياسات مكافحة العدوى. على الجانب الآخر كان فريق الأطباء يستعد لوضع وتجهيز بروتكول العلاج للمرضى ويستمتعون بقضاء الوقت سوياً في مرح لا أعلم إن كان حقيقياً أم مفتعلاً لتهوين مرور الساعات وتقليل توتر اللحظات التي تمر عليهم حتى اجتمعت بهم لتدريبهم أيضاً على إجراءات التعامل مع المرضى وسياسات مكافحة العدوى لأجدهم جيشاً حقيقياً من الأطباء المتعاونين، جميعهم من خارج الفريق الطبي الرئيسي للمستشفى، يشجعون بعضهم البعض ويتشاركون سوياً العلم.
توالت الأيام في التجهيزات والتدريبات وأنا أشاهد يومياً روح العمل الجماعي بين جميع العاملين حتى تملكت الروح الانهزامية من السيطرة على العاملين نظراً لعدم وضوح الموقف. فنحن لا نعلم في أي ساعة ستأتي أول حالة وقد سئمنا الانتظار. وهنا أذكر أحدهم يقول : على رأي المثل وقوع البلا ولا انتظاره.
ثم جاءت ليلة الخميس 12 مارس، وقرر الجميع الاجتماع في صالة الاستقبال لليلة سمر للترفيه عن أنفسهم من عناء التجهيزات وضغط العمل. مازال صوت غناء آية جاد (فنية صيانة) يتردد في آذاني وهي تغني “أنا ابن مصر” لتنشر روح الحماس بين العاملين وتعزز روح الانتماء بينهم.
يوم الجمعة 13 مارس، تم تجهيز صالة الاستقبال لأداء صلاة الجمعة وسط روح من الاطمئنان والدعوات بالتوفيق من الله لأداء هذه المهمة بنجاح.
ليلة الجمعة 13 مارس، جاء أول اتصال لإبلاغنا بوصول أول حالتين مصابة في غضون ساعة إلى المستشفى … اذكر جيداً أني التقط الميكروفون لإذاعة بيان قدوم أول حالة في المستشفى لإعلام الجميع بالاستعداد لاستقبال الحالة القادمة. حالة من المفاجأة والذهول والصدمة تسود المستشفى وإذ بي أجد نفسي أصرخ في الجميع لكسر هذه الحالة من الصدمة وتبدأ خلية النحل في اتخاذ موقعها المحدد لها في هذه المرحلة. في هذه اللحظة جاء بطل الدور الدور الثالث بالمستشفى محمد إبراهيم (مشرف تمريض هذا الدور) ليعلن أنه سيقوم باستقبال هذه الحالات. رأيت فيه ذلك الرجل المغوار الذي رفع سلاحه في وجه هذا الفيروس وقام بتحفيز زملاءه (مصطفى وإبراهيم) وتشجيعهم وبث روح الطمأنينة بينهم. علمني محمد إبراهيم الثبات والشجاعة والثقة بالله. ثم جاء دكتور محمد فتحي (طبيب الحميات) بهدوئه وحكمته وثباته مستعداً لارتداء الواقيات الشخصية للمشاركة في استقبال الحالات القادمة. وأخيراً جاءت العظيمة ميرفت (عاملة) لترتدي الواقيات الشخصية قائلة: انا جاهزة يا دكتورة ربنا مش حيكسفنا. ربنا مش حيضيعنا. ربنا حينصرنا ويحمينا. احنا بنعمل خير.
بهذه العبارات استمر قلبي في الخفقان سريعاً ولكني حافظت على ثباتي حتى لا اهتز أمام هذه القوة والثبات التي رأيتها بين هؤلاء الرائعين لأنه بمجرد دخول أول حالات تتحرك عجلة المستشفى في استقبال حالات أخرى وكانت البداية هي النقطة الحاسمة التي كانت المؤشر على مدى نجاحي في أداء مهمتي.
قمت بمساعدتهم في ارتداء الواقيات الشخصية وأنا أكاد اسمع دقات القلوب لكل منا جميعاً تتعالى. نزلت معهم أقف بعيداً لاستقبال الحالتين وذلك اتباعاً لسياسة تقليل الاختلاط بالمرضى. كنت أشعر أن أولادي على حافة الخطر.
“استرها معانا يارب… متكسفنيش يارب” … لم يفارق هذا الدعاء شفتي حتى وصول الحالات إلى غرفها والاطمئنان عليهم وعلى فريق العمل. ليفاجئني دكتور محمد فتحي بعد أن تم عزله برسالة صوتية على الواتساب يخبرني بمدى حرفية العاملين والتزامهم بالإجراءات التي كنت قد عهدت تدريبهم عليها. هنا لم اتمالك دموعي من الفرحة بهذه الشهادة التي جعلتني على ثقة واطمئنان أن هذا الفريق سيستطيع أن يقاوم ويهزم هذا المرض اللعين.
استمر العمل في تناغم حتى جاءني اتصال الاثنين 16 مارس الثانية فجراً وأنا استعد للراحة: “دكتورة اسراء في حالة بتموت عايزينك تدربينا حنعمل ايه لو مات؟” …. هنا شعرت أن العالم توقف … لأول مرة في حياتي أواجه خبر موت … مرت ثواني من الصمت والدموع والانهيار لتأتي رفيقة السكن دكتورة سوزان (طبيبة نسا وتوليد) لتطمئنني وتربط على قلبي وتساعدني على تقبل الموقف لتجهيز قوتي لتدريب العاملين. وبالفعل نجحت في تدريب العاملين ثم عدت إلى غرفتي أصلي وأدعو الله أن ينقذ المريض وألا أشاهد وفاته. لقد استمر بالمقاومة حتى قطع أمله بالحياة وتوفى يوم الاحد 22 مارس قبل خروجي من المستشفى بيوم.
عند إعلان خبر الوفاة في المستشفى كان أحد الأطباء العظماء خير عون لي على تقبل الأمر دكتور/ محمد عليوة (طبيب أطفال)، لقد اعتاد هذا الطبيب الشاب على رسم البسمة على وجوه العاملين جميعاً ودعمهم معنوياً حتى تمر هذه الأزمة بسلام نفسي علينا جميعاً على الرغم من إصابة ابنته بكسر في رجلها إلا أنه حافظ على قوته وثباته من أجل الجميع.
تجربتي في مستشفى العزل هي أول تجربة مهنية لي في مستشفى مخصصة لاستقبال حالات العزل. خرجت من المستشفى يوم 23 مارس بعد أن جاءت نتيجة التحليل الخاصة بي سلبية وسط خوف وترقب من جميع الأقارب والأهل والأصدقاء.
مرت ال 16 يوم كالحلم الجميل الذي لا انكر أنه أثر في حياتي وغير من شخصيتي. تعلمت الكثير عن الحياة والموت والصمود والكفاح والتعاون. لقد كنت شاهداً على لوحة فنية رائعة من التفاني والإخلاص لإنقاذ البشرية.
دائماً أردد عبارة “الكنز في الرحلة” وقد كان. لقد اكتشفت العديد من الكنوز والهدايا التي أنعم الله بها علي خلال هذه الأيام التي ستظل محفورة في ذاكرتي لأحكي عنها للعالم أجمع. لقد كانت كل كنوزي هي هذا الفريق الذي سأظل دوماً افتخر اني كنت جزء منهم في أهم مرحلة للمستشفى.
لا تستمر الحياة إلا بالتجاوزات … يجب أن تتجاوز خوفك … استطاع فريق العمل أن يتجاوز حاجز الخوف بكل ثبات ليقوم بمواجهة كائن ما زال مجهول الهوية والمصدر والحقيقة. وهذا هو مصدر الفخر الحقيقي لكل البشرية.